أخبار مفتي الجمهورية

رسالة سماحة المفتي بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة 1440 هـ

وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة ذكرى رأس السنة الهجرية الاتي نصها: الحمدُ للهِ ذِي الفَضْلِ والإحْسَان، شرعَ لعبادِه هِجْرةَ القُلوبِ وهِجْرةَ الأَبْدَان، وجَعَلَ هاتين الهِجْرَتين باقِيَتَيْنِ على مَرِّ الزَّمان .

وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه ، وعدَ المُهَاجِرين إليهِ أجْرَاً عَظِيماً ، قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ ، وقالَ تَعَالى : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، وقَالَ تَعَالى :  ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

وأشْهَدُ أنَّ محمداً عَبْدُه ورسُولُه ، هَاجرَ إلى رَبِّه فأوَاه وحَمَاه ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ أن قَال : (لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وعلى آلِه وأصْحَابِه الذين هَاجَرُوا وجَاهَدُوا في سَبِيلِ الله، حتَّى فَتَحُوا القُلوبَ والبُلْدَان، ونَشَرُوا العدلَ والإيمانَ والإحْسَان.

أما بعد :

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

مع حُلولِ كُلِّ عامٍ هجريٍّ جَدِيد، يقفُ المسلمونَ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها مُحْتَفِينَ بعامٍ هجريٍّ جديد، ومُسْتَذْكِرين أحداثَ الهِجْرِةِ النَبَوِيَّةِ الشَّرِيفَة، التي تَسْتَحِقُّ الوَقْفَةَ المُتَأَنِّيَة، لأَنَّها كَانتْ في حَقِيقَتِها ، حَدَثاً بالغَ الأهميةِ في تَارِيخِ وحَياةِ العربِ والمسلمين، وَهيَ لَم تَكُنْ سَفَرَاً وانْتِقَالاً لِتَحْصِيلِ مُتَعِ الدُّنْيَا ومَلَذَّاتِهَا، وإنما كانتْ انْتِقَالاً مِنْ أَجْلِ الحِفَاظِ على العقيدة، وتضحيةً كُبْرَى على حِسَابِ النَّفْسِ والمَالِ والأهْلِ والوَلَد، مِنْ أجلِ العَقِيدة، فهيَ تَبْدَأُ من أَجْلِ العَقِيدة، وغَايتُها العَقِيدة، وفِيهَا الإصرارُ على اتِّبَاعِ الحقِّ، والدَّعوةِ إلى نَهْجِ الهُدَى والرَّشَاد.

لقَدْ قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنذُ بَعثَتِهِ بِمَكَّة ، قُرَابَةَ الثلاثةَ عَشَرَ عاماً ، دَاعِياً لِلوَحْدَانِيَّةِ والاسْتِقَامَةِ الخُلُقِيَّة ، والانْضِمَامِ إلى رَكْبِ وَحْدَةِ الدِّينِ الذي دَعَا إليهِ وَإليها ، أبو الأنبياءِ إبراهيمُ عليهِ السَّلام، الذي بَنَى البَيتَ العَتِيقَ مَعَ ابْنِهِ إسماعيلَ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَة. ولذلك ، فإنَّ العَرَبَ الذين كانوا يَحُجُّونَ إلى البيتِ، هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالبقَاءِ على دَعوَةِ إبراهيمَ وَدِيَانَتِه. فَبِبَرَكَةِ دَعوَةِ إبراهيم، اِسْتَقَامَ لِقُرَيشٍ الأمْر ، وَصَنَعُوا الإيلافَ الذي ذَكَّرَهُمُ القرآنُ الكريمُ بِه، قَالَ تَعَالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ .

نَحنُ عَائدونَ مِنَ الحَجِّ إلى البَيْتِ الذي بِناهُ إِبراهيمُ وَإِسماعيل ، وَحَوَّلَ تِلكَ النَّوَاحِيَ الصَّحرَاوِيَّةَ الجَردَاءَ إلى وَاحَةٍ مُزدَهِرةٍ لِلخيرِ والائتلافِ والنَّمَاء .

بَعدَ قُرونٍ تَنَكَّرَ المَكِّيُّونَ لِكُلَّ ذلك ، فَأَرسَلَ إِليهِمْ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مُحمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  لِإعَادَتِهِمْ إلى السَّبِيلِ المُستَقِيم ، سَبيلِ إِبرَاهِيمَ الخَليل عليهِ السَّلام .

لقد حاولَ رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه ، وَطَوَالَ قُرَابةِ الثلاثَةَ عَشَرَ عاماً مِنْ دَعوَتِهِ بمكّة ، أنْ يُبشِّرَ بني قومِهِ ويُنذِرَهُم ،  فَمَا آمَنَ مَعَهُ إلا قَلِيل . بَيدَ أنَّ هذا الإعْرَاض ، ما اقتصَرَ على عَدَمِ الإيمانِ والاتِّبَاع . بل إنَّ سادةَ قُريشٍ عَمَدُوا إلى اضطِهادِ أولئكَ الذين أصْغَوا إلى دَعوَةِ الحق . وما تَزَالُ صَرَخَاتُ سُمَيَّةَ وبلالٍ وعَمَّارٍ تَحتَ التعذيب ، ماضيةً عَبْرَ الزَّمَان، ويُشيرُ إلى ذاك الثَبَاتُ الذي يَهَبُهُ الإيمَان ، وتلكَ الطُمَأنِينَةُ الوَادِعَة، التي يَنْفُخُ في جَنَباتِها اليقينُ بوعدِ اللهِ للمُؤمنين الصَادِقِين، وَوَعيدِه للجَبَّارين والمُتكبِّرين . قَالَ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ، وقد حاوَلوا إغراءَه بعدَ الوَعِيد :  (واللهِ لو وَضَعُوا الشَّمسَ في يَميني ، والقمرَ في يَسَاري، على أنْ أترُكَ هذا الأمرَ ما فَعَلْت) . فتَعَالتْ قُريشٌ على بني عبدِ المُطَّلِبِ وعَزَلَتْهُم ، وحاصَرَتْهُم في الشِّعْبِ ثلاثَ سِنين ، حتى أكلوا وَرَقَ الشَّجَر، وما ذَلّوا ولا استَكَانوا . ثم أمرَ رسولُ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الذينَ لا يَستطيعون الدِّفاعَ عَنْ أنفُسِهِمْ مِنَ المُؤمنين، بالهِجرةِ إلى الحَبَشَة ، وقال لهم : (إنَّ فيها مَلِكاً لا يُظلَمُ عِندَهُ أَحَد) . وخَشِيَتْ قُريشٌ أنْ تَنتَشِرَ الدَّعوَةُ بهذهِ الطَّريقةِ خارِجَ مَكّة ، فأرسَلتْ رُسُلَهَا إلى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشةِ المَسِيحي ، لِيَطرُدَ المُسْلِمينَ مِنْ عِندِه  وقد زَعَمَ رَسُولا قُريشٍ أنَّ هؤلاءِ اللاجئينَ عِندَه  والطَّالبينَ الحِمَايَةَ والعَيشَ مُؤَقَّتاً في جِوَارِه، هُمْ ضِدُّ دَعوةِ عيسى عليهِ السَّلام، فقرأَ جَعفرُ بْنُ أبي طَالِب، اِبْنُ عَمِّ النبيِّ على المَلِكِ صَدْرَاً مِنْ سُورةِ مريم ، فتأثَّرَ النَّجَاشِيُّ وقال: (إنَّ هذا ، ومَا أَتَى بِه عيسى ، لَيَخرُجُ مِنْ مِشكاةٍ واحدة) . وأبى أنْ يَطرُدَ الآتِينَ إليهِ هَرَبَاً مِنَ الاضْطِهادِ بِسَبَبِ إيمانِهم ، وأصبحَ المسيحيون في أرضِ الحبشةِ، أولَ أصدقاءِ الدعوةِ الجَدِيدَة، وأوَّلَ أصدقاءِ أهلِها.

ثمَّ انطلقَ رَسولُ اللهِ بِصُحْبَةِ أبي بكر، يَقْصِدُ العَربَ في مواسِمِهِم، فَيَدْعوهُمْ إلى مائدةِ الحَقِّ والصِّدق . وَمضَى إلى الطَّائف، فلم يَأْبَهْ لَهُ وُجَهَاؤُها، لِأنَّهم كانوا يَعرِفُونَ مِنْ قُريشٍ أنَّ محمداً ليس مَلِكَاً ولا جَبَّاراً، وإنما هو ابنُ امْرأةٍ مِنْ قُريشٍ كانتْ تأكُلُ القَدِيدَ بمكة، وتَبِعَهُ سُفهاؤُهم وغِلمَانُهم يَسخَرُونَ منه ، فَخَرَجَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِف، وذَكَرَ اسْتِغَاثَتَهُ المَشْهُورَةِ بِوَجْهِ اللهِ الذي أضاءَتْ لهُ السَّمَواتُ والأرض، أنْ لا يَكِلَهُ إلى العَدُوِّ أو الشَّانِئ، وقال: (إنْ لمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عليَّ فلا أُبالي) .

هذه أطرافٌ مِمَّا عاناه رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في سنواتِ دَعْوَتِه الأُولَى. ولِذَلك فَقَدْ رَجَا عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، أنْ يَجِدَ في الهِجرةِ إلى يَثرِبَ فَرَجَاً ومَخرَجَاً. فَقَدْ كانَ بينَ خِيارَيْنِ أحلاهُما مُرّ: أنْ يَبقَى بمَكَّةَ مَعَ الذين آمنوا بِدعوتِه ، مُتَحَمِّلِينَ سَفَاهَةَ السُّفَهاء ، وشَمَاتَةَ الأعداء – أو أنْ يَخرُجَ مِنْ وَطَنِهِ مِنْ أجلِ الدَّعوةِ والفُرَصِ الأفضلِ لِنَجَاحِها. وقد رأى أنَّ تِلكَ الفُرَصَ مُمْكِنةٌ، بعدَ التقائهِ بِجمَاعَاتٍ مِنْ أهلِ يَثرِب، دَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فاسْتَجَابُوا، وَدَعَوْهُ إلى بَلْدَتِهِم. فَخَرَجَ عليهِ الصَلاةُ والسَّلامُ إلى يَثرِبَ سِرّاً، يَصْحَبُهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيق، بَعدَ أنْ كانَ قد طَلَبَ مِنْ أصحَابِهِ خِلالَ عامٍ أنْ يَخرُجُوا قَبْلَهُ مُتَفَرِّقِين، حتى لا تَرُدَّهُمْ قُريش.

لقد تَحمَّلَ عليه الصَلاةُ والسَّلامُ مَشَقَّاتِ مُغَادَرَةِ البيتِ الوَادِع ، والحَرَمِ الذي نشَأَ على الطَّوافِ بِهِ ومِنْ حَولِه. وفي كلِّ ذلكَ مَسؤوليَّاتٌ هائلة، لكنَّها هانَتْ عليه وعلى مِئاتِ المُؤمنين، مِنْ أجلِ صَوْنِ إيمانِهم، وَفَتحِ آفاقٍ أُخْرَى لِلدَّعوةِ والدِّين.

نَعَم أَيُّهَا المُسْلِمون : نحن نَتَذَكَّرُ الهِجْرَة، بِاعْتِبَارِهَا تَجْرِبَةَ نَجَاح. لكنّهَا كَانَتْ أيضاً تَجْرِبَةَ نِضَال، عَانَى خِلالَهَا المُسلِمُونَ مِنَ الاضْطِهَادِ وَالقَتْل، وَمُغَادَرَةِ الدِّيَار، لقد كانوا بَينَ أَحَدِ أَمْرَين: إِمَّا تَرْكُ الدِّين، أو مُغَادَرَةُ الدِّيار. وَقَدِ اخْتَارُوا الإِصْرَارَ على دِينِهِم وَإيمَانِهِم، مُقتَدِينَ بِرَسُولِهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه، عِندَمَا قال: (وَاللهِ لَو وَضَعْتُمُ الشَّمْسَ في يَمِينِي، وَالقَمَرَ في يَسَارِي، عَلى أَنْ أَتْرُكَ هذا الأَمْر، مَا فَعَلْت، أَو أَهْلِكَ دُونَه) . لكنَّهُمْ في هذا الخِيَارِ الوَاعِي، كَسَبُوا الأَمْرَينِ مَعاً : كَسَبُوا حُرِّيَّتَهُمُ الدِّينِيَّة، وَكَسَبُوا أيضاً أَوطَانَهُمْ بِالعَودَةِ إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَة، أَحْرَاراً وَمُتَعَالِينَ عَنِ الاضْطِهَاد، أَو مُلاحَقَةِ خُصُومِهِمُ السَّابِقِين، فالهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ إذاً تُعطِينَا هَذَينِ المِثَالَين : أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالحُرِّيَّة، يُكْسِبُنَا الدَّولَةَ الحُرَّةَ وَالقَوِيَّة ، كَمَا أنَّهُ يُكْسِبُنَا الدَّارَ وَالوَطَن، وَالعَيشَ المُشتَرَك، بَعِيداً عَنِ الاسْتِقْوَاءِ وَالافْتِرَاءِ وَالاسْتِئْثَار.

عندما كان نَبِيُّنَا وَرَسُولُنا وَقُدْوَتُنَا مُحمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الذي نَفْتَخِرُ بهِ ونعتز، يُقِيمُ الدَّولَةَ الجَدِيدَة، مَا اسْتَبِعَدَ أحداً، وَلا تَحَدَّى قَرَارَ أَحَدٍ أَو حُرِّيَّتَه . وَمَا اسْتَعْمَلُوا وَقْتَهَا مُصْطَلَحَ العَيشِ المُشْتَرَك، بَلْ سَمَّوُا الدَّارَ الجَدِيدَة، دَارَ الجَمَاعَة، وَدَارَ العَهْد، وَدَارَ العَقْد، وَدَارَ الأُمَّةِ الوَاحِدَة . وَلا مَعْنَى لِذَلِك، إِلا مَا نُسَمِّيهِ اليَوم ، العَيشَ المُشْتَرَك. بَلْ إِنَّ كُلَّ البَاحِثِينَ الغَربِيِّينَ وَالمُسْلِمِين، سَمَّوا كِتَابَ المَدِينَةِ أو صَحِيفَتَهَا دُستُوراً. وَهُوَ دُستُورٌ لِلاعْتِرَافِ بِالجَمَاعَاتِ المُخْتَلِفَة، المُشَارِكَةِ في العَقْدِ وَالعَهْد، وَلِتَنْظِيمِ التَّعَامُلِ فِيمَا بَينَهَا بِالقِسْطِ وَالإنْصَاف، وَالعَدْلِ وَرُوحِ المحبةِ والتَّسَامُح.

إنَّ الهِجْرِةَ النَبَوِيَّةَ الشَّرِيفَة ، تَقَعُ في وَعْيِ المُسْلِمِين، بَينَ ثَلاثَةِ اعتبارات: اِستِمرَارُ الكِفَاحِ مِنْ أَجلِ حُرِّيَّةِ الدَّعوَة ، وَحُرِّيَّةِ القَولِ وَالعَمَل، وَمُغَادَرَةُ الدَّارِ وَالمَوْطِن، مِنْ أَجْلِ إِحقَاقِ ذَلِك – وَالسَّعْيِ لِإقامَةِ (الأُمَّةِ مِن دُونِ النَّاس) التي أَعْلَنَ عَنهَا رَسُولُ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليه، في كِتَابِ المَدِينَةِ بَعدَ الهِجرَةِ مُبَاشَرةً . والاعتبارُ الثَّالِث: الاقتِدَاءُ بِتَجْرِبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في إِقَامَةِ الدَّولَةِ الجَامِعَةِ والقَوِيِّةِ والمُتَمَاسِكَة، برغمَ الاخْتِلافِ الدِّينِيِّ وَالاجتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيّ، وَتُؤَسِّسُ وُجُودَها وَقَرَارَاتِهَا على التَّعَاقُدِ الذي يُشْرِكُ الجَمِيع، وَلا يَسْتَثْنِي فَرِيقاً أو أحداً إذا كَانَ مُوَافِقاً على المُشَارَكَة.

أيها اللبنانيون :

مَا شَهِدَ لبنانُ إِلا في النَّادِرِ هذه المَلَفَّاتِ المُتَشَابِكَةَ وَالمُعَقَّدَة ، في الأَمْنِ الوَطَنِيّ ، وفي الاقْتِصَاد ، وفي العَمَلِ السِّيَاسِيّ ، وفي عَلاقَاتِهِ العَرَبِيةِ وَالدَّولِيَّة . وهذا التَّعَقُّدُ في المَلَفَّات ، لهُ ثَلاثُ عِلَل: إِصْرَارُ كُلِّ فَرِيقٍ على جَذْبِ المِيَاهِ إلى طَاحُونِهِ وَحْدَه، وفي الصَّغِيرَةِ  قَبلَ الكبيرة. ولذلك، تَتَكَاثَرُ التَّجَاذُبَاتُ وَالنِّزَاعَاتُ إلى مَا لا نِهَايَة . وإذا كان هذا الأمرُ خَطَأً في أَسالِيبِ مُوَاجَهةِ الاخْتِلافَات ؛ فإنَّ العِلَّةَ الأُخْرَى أَكْبَرُ وَأَفْجَع، وَتَتَمَثَّلُ في اسْتِمْرَارِ الخِلافَاتِ بِشَأْنِ الثَّوَابِتِ التي لا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَمِرّ، لأَنَّهَا تُشَكِّلُ ضَرباً لِلأُسُسِ التي يَقُومُ عليها العَيشُ المُشتَرَك ، وَتَقُومُ عليها الحَيَاةُ الوَطَنِيَّةُ الاجْتِمَاعِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّة . وَنحنُ نَعرِفُ أَنَّ أحداً لنْ يُغَيِّرَ رَأيَه، اِسْتِنَاداً إلى اقْتِنَاعِهِ بِصِحَّةِ مَوَاقِفِه ، لكِنَّنَا جَمِيعاً نَعْرِفُ أنَّهُ حتَّى الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه، لا يَتَحَقَّقُ في نِظَامِنَا إلا بِالتَّوَافُق . ونحن نَرَى جِدَالاتِ الحُقوق، وُصُولاً إلى تَعدِيلِ الدُّسْتُور، ليسَ الآنَ وَقتُهَا، ولا يُمْكِنُ تَحقِيقُ شَيءٍ فيها، وبخاصةٍ أنَّ كثيراً مِنَ اللبنانيين، يَرَونَ أنَّ مَا جَرَى السَّيرُ فيه، في أمورٍ أساسِيَّةٍ عِدَّة، خَلَّفَ تَظَلُّمَاتٍ وَأَحقاداً وَمُشكِلاتٍ تُخِلُّ بِحَقِّ المُوَاطِنِينَ في العِنَايَةِ وَالإنصاف، وَحُسنِ الإدارة، وَتَجَنُّبِ اخْتِلالاتِ الفَسَادِ في هذه الظُّرُوفِ القَاسِيَة. إنَّ المسألةَ أو نِصفَها على الأقلّ، تَكْمُنُ في الثِّقَةِ التي يَنْبَغِي تَعزيزُها بينَ اللبنانيين، لِلنُّهُوضِ بِالوطن، فَالثِّقَةُ هي الأساسُ في سُلوكِ الطريقِ المُستقيمِ بلبنان.

أيها اللبنانيون :

لقد ذَكرْتُ عِلّتينِ لِتَفاقُمِ المُشكِلاتِ السِّيَاسِيَّةِ والاقتصادِيَّة . أمَّا العلّةُ الثالثةُ أو عِلّةُ العلل، فهو السِّلاحُ المُتفَلِّتُ بَينَ النَّاس، وهذا يُشَكِّلُ خطراً على المُوَاطِنِ وَالوَطَن، فالمُعانَاةُ التي نَشْهَدُها في مُختَلِفِ المَنَاطِقِ اللبنانية، مِنْ جَرَّاءِ هذا السِّلاح، تستدْعِي مُعالَجَتَه، كي لا يَزدَادَ الوضُعُ سُوءاً، وكي لا يَتِمَّ مِنْ خِلالِه اسْتِبَاحَةُ حَياةِ النَّاسِ وأمَوالِهِم،  عبرَ هؤلاءِ المُجرمين الخارجين على القانون.

نعم أيها اللبنانيون :

نحنُ نعيشُ في لبنانَ أياماً صعبةً ونواجه يومياً تحديات كبيرة متعددة ومتنوعة منها الاقْتِصَادِي والمَالي والأَمْنِي والمَعِيشي والاجْتِمَاعي، ولا يُمكنُ إلا أنْ نُكونَ مُستَعِدِّينَ للاحتِمالاتِ كافة، للتَّصدِّي لها، وما قامَ ويقومُ به العدُوُّ الإسرائيليُّ مِنْ عُدوَانٍ على وَطَنِنَا لبنان، هو عَمَلٌ إِرهاَبِيٌّ بامْتِياز، لترهيبِ النَّاسِ في أمْنِهِم وَعَيشِهِم.

إنَّنَا في دَارِ الفَتوَى في الجمهوريَّةِ اللبنانية، نَعتَبِرُ أنَّ ما قامَ به العَدُوُّ الصُّهيونِيُّ في ضاحِيَةِ بيروتَ الجنوبية، هو جريمةُ حَربٍ في حَقِّ اللبنانيينِ جَميعاً، دَولةً وشَعباً ومُؤسَّسات، وهذا يَتَطَلَّبُ وَعياً وَحِكمَةً وَدِراية، في التَّعَامُلِ مَعَ هذا الأَمرِ الخطير، الذي تَتَكَشَّفُ مَعَالِمُه يَومًا بَعدَ يَوم، تمادياً بِالعُدوان، لِيَصِلَ إلى المَنَاطِقِ اللبنانِيَّة كافَّة.

إنَّ صُمُودَ الشَّعبِ اللبنانيِّ حتَّى هذه اللَّحْظة ، في وَجْهِ الاستفزازِ الذي يُمارِسُهُ العدُو، من خلالِ إرسالِ طَائراتِهِ المُسَيَّرةِ وغير المُسَيَّرةِ في أجواءِ لبنان، مُنتهِكاً القرارَ الدَّوليّ 1701 الذي خُرِقَ مِنْ قِبَلِ العَدُوِّ مُنذُ صُدورِه، هَذا الانتهاك، أعطى البُرهَانَ على خطأِ الحِسَاباتِ التي راهنَ عليها الكِيانُ الصُّهيونِيّ، بانْهِيارِ التَّمَاسُكِ الوَطَنِيّ، وشكَّلَ أيضاً مَزِيداً مِنَ الوَحدَةِ والتَّضَامُنِ بينَ اللبنانيين، لِمُوَاجَهَةِ هذا الاعتداءِ السَّافِرِ على لبنانَ وَشَعْبِه. كما أنَّنَا نُنَبِّهُ مِنْ أَبعَادِ هذا العُدوان، الذي يَستهدِفُ هذه الوَحْدَة، لاستِدراجِ لبنانَ وَالمَنطِقَةَ العَرَبِيَّةَ كُلَّها، إلى فِتنَةٍ لا تُبقِي ولا تَذَر. فَالوَحدَةُ الوَطَنِيَّة، كانَتْ وَسَتَبقَى القَاعِدَةَ الأساس في مُقاوَمَةِ الاحتلالِ الإسرائيلي.

وفي هذا الإطار، نُعلِنُ تَأْيِيدَنَا الكَامِلَ لِلحُكومَةِ اللبنانِيَّة، بِرِئاسَةِ رَئيسِ مَجلِسِ الوزراء سعد الحريري، وَالإجرَاءَاتِ التي اتَّخَذَهَا المَجلِسُ الأعلى لِلدِّفَاع، بِرِئاسَةِ رَئيسِ الجُمهورِيَّة العِمَاد ميشال عون، والسَّعْيَ الدَّؤُوبَ في المُعالجَاتِ السِّيَاسِيَّة، مِنْ أجلِ تَوفِيرِ المُناخِ المُلائم، لاستِعَادَةِ الدَّولَةِ سِيَادَتَهَا، وَبَسْطِ سُلطَتِها على جَميعِ الأراضي اللبنانية، ونُؤَكِّدُ على دَورِ الجَيشِ اللبنانِيّ، وَسائر القُوَى الأمْنِية، في حِفظِ أَمْنِ البلادِ وسلامتِها واستقرارِها، باعتبارِهِمَا ضَمَانَةَ وَحدِةِ البِلادِ والعِباد.

 وَلا يَسَعُنا هنا، إلا أنْ نَدعَمَ الدَّولة، وَالسُّلطَةَ التَّنفِيذِيَّة، في تَحصِينِ العُملَةِ الوَطَنِيَّة، بِطريقةٍ حَازِمَةٍ وَصَارِمَة، كي لا يَشْعُرَ المُوَاطِنُ أنَّهُ في خَطَرٍ دَاهِم ، بل في أمانٍ نَقْدِيّ . وهذا الأمرُ مَسؤوليَّةُ الجميع، ولا يتحقَّقُ إلا بِالالتِفَافِ حَولَ الحكومَة، وَمُسَاعَدَتِها في التَّصَدِّي لِكُلِّ مُحَاوَلاتِ زَعزَعَةِ الاسْتِقرَارِ المَالِيّ، في ظِلِّ ظُروفٍ اقتصادِيَّةٍ دَقِيقَةٍ وَحَسَّاسَة، تَتَطَلَّبُ مِنَّا العَمَلَ جَمِيعاً مِنْ أجلِ صالِحِ وَطَنِنَا.

أيها المسلمون ، أيها اللبنانيون :

في ذِكرَى الهِجرَة النبوية الشريفة، نَحْتَفِي بِالإنجاز، وَنَحْتَفِي بِنَتَائجِ النِّضَال، ونَحتَفِي بِفَتحِ آفَاقٍ مُستَقْبَلِيَّة. وَمِنْ حَقِّ اللبنانيين أنْ يَفرَحُوا بِالمَولِدِ النَّبَوِيّ، وَبِالهِجرَةِ النَّبَوِيَّة، باعتبارِهِمَا رَسائلَ أمَلٍ وَحُبٍّ وَتَضَامُنٍ وَتَعَارُف. ولكِنْ لنا أَنْ نَفرَحَ أَكْثَر، إذا أَقْبَلَتْ سُلُطَاتُنَا على العِنَايَةِ أَكْثَرَ بِالمَسائلِ الأربع : مَسأَلَةِ سِيادةِ الدَّولة ، وَمَسأَلَةِ النَّأْيِ بِالنَّفْسِ عَنِ المَحَاوِرِ وَالاشْتِبَاكَات ، وَالمَسأَلةِ الاقْتِصَادِيَّةِ البَالِغَةِ الشِّدَّة، وَمَسأَلَةِ الخِدْمَاتِ لِلمُوَاطِنِين.

لنْ يَخْمَدَ الأَمَلُ بِالإمَكَاناتِ الوَطَنِيَّةِ الكَبيرَة ، كمَا لن يَخْمَدَ الأملُ بِعَزَائمِ اللبنانيينَ وَعَيشِهِمُ المُشترَك، وَلا بِقُدرَتِهِمْ على التَّوَافُقِ وَالتَّضَامُنِ في خِدمَةِ وَطَنِهِم . هكذا عَلَّمَتْنَا الأَيَّامُ وَالشَّدَائِد : أنْ يَتَلاقَى اللبنانيونَ في الأَزَمَات، وَأنْ يَتَضَامَنُوا، وأنْ يُبَادِرُوا، وأنْ يُحَوِّلُوا المَآزِقَ والأزمات، إلى فُرَصِ وحلولٍ ومعالجات. وهذا هُوَ الدَّرسُ الذي تَعَلَّمْنَاهُ مِنَ القرآنِ الكريمِ وَمِنَ النَّبِيّ المصطفى صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه. ففي القرآنِ الكريم، قَالَ تَعَالى : ﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ . وفي الحديثِ النَّبَوِيّ : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ – نبتةُ النخيل – ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْرِسَهَا ، فَلْيَغْرِسْهَا).

عليكَ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ يا رَسُولَ الله، وَجَزَاكَ أَحسَنَ مَا يُجزَى نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِه ، فَقَد َأَدَّيْتَ الرِّسَالَة وحَمَلْتَ الأَمَانَة ، وَبَادَرْتَ إلى الأُمَّةِ وَالدَّولة، وَالمُجتَمَعِ السَّمْحِ، والأخلاقِ العالية. سلامُ اللهِ عليكَ في مَولِدِكَ وَبَعثَتِك، وَهِجرَتِكَ وَسِلْمِك، وَمَحَبَّتِكَ وَحَيَاتِكَ وَمَوتِك قَالَ تَعَالى : ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾. صدقَ اللهُ العظيم .

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق