ألقى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان خطبة عيد الفطر السعيد في جامع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد الأمين صلى الله عليه وسلم في وسط بيروت وأم المصلين بحضور ممثل رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري الرئيس تمام سلام والنائب فؤاد مخزومي وسفراء دولة الإمارات العربية المتحدة في لبنان حمد الشامسي والسفير اليمني في لبنان عبد الله الداعس وسفير الجزائر في لبنان احمد بوزيان وسفير بنغلادش في لبنان عبد المطلب ساركير والمستشار السياسي في السفارة السعودية في لبنان ماجد أبو العلا وأمين عام مجلس الوزراء فؤاد فليفل ومحافظ جبل لبنان القاضي محمد مكاوي ورئيس بلدية بيروت جمال عيتاني والوزير السابق خالد قباني والنائب السابق الدكتور عماد الحوت وأمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية الشيخ امين الكردي ورئيس محكمة جبيل الشرعية القاضي الشيخ خلدون عريمط وقائد شرطة بيروت العميد محمد الأيوبي ومدير العلاقات العامة في مكتب الرئيس الشهيد رفيق الحريري الحاج عدنان فاكهاني ورئيس حزب النجاة مصطفى الحكيم ورئيس مؤسسات المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد المهندس سعد الدين خالد وعلماء وأعضاء من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وحشد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والنقابية والعسكرية.
وقال المفتي دريان في خطبة عيد الفطر:
نَقِفُ اليَوْمَ في هذِه الصبيحةِ الساطعةِ المشرقةِ المباركة ، مع نهايةِ شَهرِ رمضان المبارك ، وبِدايَةِ أَيَّامِ الفِطر ، ونَحنُ شَديدو الفرحةِ والسعادةِ والاعتِزازِ بِفريضةِ الصَومِ التي أَدَّيْنا ، امْتِثَالاً للأَمْرِ الإلهي في قولهِ تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ، وقولِه تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ ، ونَحنُ نَعرِفُ الأجرَ الكبيرَ لِمَنْ صَامَ رمضانَ ، وقامَ لَيالِيَهُ ، كَما أنَّنا نعرِفُ بِالتَجرِبة ، أَنَّ شهرَ رمضانَ وعِباداتِه وأَخلاقَهُ ، تُصبِحُ مِيزاناً ومِقْياساً للإنسانِ الصالحِ على مدى العامِ كُلِّه ، في الانضِباطِ والأخلاقياتِ ، وفي حفظِ اليَدِ واللِّسان ، وفي التَفكيرِ والتَدبيرِ لِلجَميع ، وفي الإحساسِ بِمَسؤولِياتِ الإيمان ، وأَعباءِ التَكليفِ بِالعِبادَةِ والعَمَلِ الصالِح ، مَهما كانتِ الصُعُوباتُ والمَشَقَّات .
أيها المسلمون :
لقد ذكرَ اللهُ سبحانَه وتعالى سببينِ لِصَومِ رمضان :
أوَّلُهُمَا: أنَّها السُّنَّةُ الإلهيَّةُ في دياناتِ التَّوحيد، التي اشترَعَها اللهُ مِنْ ضِمْنِ فروضِ العِبادة ، إلى جانِبِ الصلاةِ والحَجِّ والزَّكاة.
والسببُ الثاني: وهوَ خاصٌّ بالإسلامِ والمسلمين ، وَيَتَمَثَّلُ في أنَّ الصَّومَ مَفروضٌ في رمضانَ بالذَّات ، لأنَّهُ شَهرُ النِّعْمَةِ والرَّحْمَة ، الذي أُنزِلَ فيه القرآنُ الكريمُ ، على نبيِّ الإسلامِ ورسولِهِ محمدٍ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه ؛ مُختصّاً بذلكَ هذهِ الأُمّة ، قالَ تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .
وهذا معنى قولِهِ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ .
فكانَ مِنْ نِعَمِ اللهِ على هذه الأُمَّة ، أنَّها اسْتَجَابتْ لِرِسالةِ الطُّهْر، وآمَنَتْ وَحَمَلتْ دَعوةَ الطُّهْرِ والزَّكاةِ والكِتابِ والحِكْمَة . فحَقَّ لها وقدِ انْفَتَحَتْ سُبُلُ واختِصَاصُ اللهِ سُبحانَهُ لها بِرحْمَتِهِ وَرِضوانِه ، أنْ تُقبِلَ على أَداءِ فرائضِ الهِدايةِ والرَّشادِ والنَّجاةِ وَمُتَطَلَّباتِها.
أيها المسلمون :
أمسِ كانَ آخِرَ أيَّامِ شهرِ رمضانَ المُبارك . فحَقَّ لِلمسلمين أنْ يَفرحُوا لِلنَّجَاحِ في أداءِ الواجِب ، وَحَقَّ لهُم أنْ يَتَأَمَّلوا فيما كانَ ويكونُ في ماضي حياتِهِم ومُستَقبَلِها . لقد صاروا مُستعِدِّين بعدَ تَحَمُّلِ العِبْءِ والمَشَقَّةِ طَوَالَ الشَّهْرِ المُبَارَك ، لِجَنْيِ ثَمَراتِ هذا الطُّهْرِ وَالتَّنَسُّك ، وهذه الطَّاعةِ التي لا مَثنَوِيَّةَ فيها ولا تَرَدُّد . إنَّهُ إفْرادُهُ سُبحانَهُ بالطَّاعةِ والعِبادة. وإفرادُهُ بِأداءِ الطَّاعات ، وهِجْرانِ المعاصي . وإفرادُهُ بالحَمْدِ والشُّكر . كما التَّوَجُّهُ إليهِ بِصُنْعِ المَعروفِ تُجَاهَ ذَوِيهِم وأهلِيهِم ، وَتُجَاهَ النَّاسِ أجمعين . فليسَتْ هناكَ عِبادةٌ في الإسلام ، تَجْتَمِعُ فيها العِباداتُ والطَّاعاتُ كُلُّها مِثلُ شهرِ رمضان . فإلى الصَّومِ وَوَاجِباتِهِ وَفُروضِه ، هناكَ الإقبالُ على الصَّلوَاتِ التي يَجْتَمِعُ فيها في رمضان ، مَا لا يَجْتَمِعُ في غيرِها . ثمَّ هناكَ مئاتُ الآلافِ مِنَ المُسلِمين الذين يَتَقَصَّدون الاعتِمَارَ في شهرِ رمَضَان.
وهناكَ تلكَ السُّنَّةُ الحَمِيدة ، التي يَتَقَصَّاهَا معظَمُ المُسلمين، بالإقْبَالِ على أداءِ الزَّكَوات ، والإكْثارِ مِنَ الصَّدقاتِ في رمضان، لأداءِ الفريضةِ مِنْ جِهة ، وَلِتَجديدِ الوَعيِ بالاحْتِيَاجَات ، وَالنُّهوضِ لِلقِيَامِ بها . فَلْنَنْظُرْ إلى مَا قامَ بهِ إخوانُكُمُ الفِلِسطينِيُّون مِنْ تَوَجُّهٍ إلى المَسْجِدِ الأقصى بِمِئاتِ الألوفِ لِلنِّضَال ، مِنْ خِلالِ التَّعَبُّدِ فيه، ضِدَّ الاسْتيلاءِ الصُّهيونيّ ، وَالشَّهادَةِ أمامَ اللهِ وَعِبادِهِ والعالَمِ كُلِّه ، أنَّهُمْ وَهُمُ الخُشَّعُ الرُّكَّعُ السُّجود ، للهِ سبحانَهُ وتعَالى ، لا يَرجونَ سِواه ، ولا يَسْتَغيثونَ بِغَيرِهِ ، فيمَا نالهُمْ مِنْ مِحَنِ النَّفيِ والتَّهْجيرِ والاسْتِعْمَارِ والاسْتِيطان . فلا حُرِّيَّةَ تُضاهي حُرِّيَّةَ المؤمنينَ وقُوَّتَهُم، ما داموا يَعْتَصِمُونَ بِهِ عزَّ وجلّ ، وَيَلوذونَ بِمَساجِدِه ؛ قالَ تعالى : ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً﴾ ، فنعوذُ بِكَ سُبحانَكَ مِنَ البَغيِ والتَّغَوُّلِ الصُّهيونِيِّ والعَالَمِيّ ، على مَسَاجِدِنا وَمَوَاطِنِ عِبادَاتِنَا ، وعلى أُولى القِبلتَين ، وثالثِ الحرَمَين.
أيُّهَا المسلمون ، أيُّها اللبنانيُّون :
ليسَ الفِلسطينِيُّونَ وَحدَهُم هُمُ الذينَ يَتَعَرَّضونَ لِجَرائمَ وَمُمَارساتِ التَّهجيرِ والاسْتِيطَان . فقد أعلنَتِ الأُمَمُ المُتَّحِدةُ أنَّهُ وفي الشُّهورِ الأُولى لهذا العَامِ فقط ، تَعَرَّضَ تِسعُمِئةٍ وَعِشرونَ ألفاً مِنَ الإخوةِ السُّوريِّينَ لِلتَّهْجير . لقد أُرغِموا بالقَصْفِ وبالحِصَارِ لِسَنَوات ، على تَركِ دِيارِهِمُ التي عاشوا فيها لِمئاتٍ مِنَ السِّنين ، وَهُمْ مُهَدَّدونَ بِعَدَمِ العَودَة ، وَمُهَدَّدونَ بأنْ يُتابِعَهُمُ القَصْفُ والقَتْلُ هُمْ وملايينُ أُخرى في المَوَاطِنِ التي تَهَجَّروا إليها . ثمَّ يأتي أُناسٌ مِنَّا لِيَضِيقوا ذَرْعاً بالذين اضْطُرُّوا لِلنُّزوحِ إلى لبنان ، وهُم يُريدون الإيهامَ بأنَّ الذي هَجَّرَهُم مِنْ قَبل ، وَهَجَّرَ إخوَانَهُمُ الآن ، يُريدُ إعادَتَهُمُ الآن ، وأنَّ الحائلَ دونَ ذلِك، هُمُ الدَّولِيُّونَ يُساعدون هؤلاءِ المُمْتَحَنينَ بِالحدِّ الأدنى تَرَقُّباً لِفُرَصِ الخَلاصِ مِنْ هذا الوَاقِعِ المَاْساوِيّ.
وَلسْتُ أدري كيفَ تَكونُ هناكَ إداراتٌ سياسِيَّةٌ مُتَعَدِّدةٌ في هذا البلدِ الصَّغير ؟! كيفَ يُقَرِّرُ فَردٌ أو طَرَفٌ في مَسألةٍ خَطيرةٍ كهذه ، كأنَّمَا ما عادَتْ هناكَ حكومةٌ عِندَها سياسةٌ وَاحِدةٌ بالدَّاخلِ وَتُجاهَ الخارج ؟! بل صارتْ لِكُلِّ طائفةٍ إدارتُها السِّياسِيَّةُ ، ولها دُوَيلتُها وَجَيشُها وَسِياسَتُهَا التي تَستطيعُ فَرضَها على الآخَرينَ ساعَةَ تَشاء .
مُنذُ مُدَّة، تَتَفاقَمُ سِياساتُ التَّفرِقَةِ وَالتَّمْييزِ حتى في المَسْألةِ الوَاحِدَة. إنَّهُ لَيُرَادُ طَردُ هؤلاءِ المُسْتَضْعَفينَ باتِّجَاهِ المَصيرِ الذي هرَبوا منه . وفي الوقتِ نفسِه ، يَجري تَجنيسُ المئاتِ مِنْ هنا وهناك ، ليكونَ هناكَ صَيفٌ وشِتاءٌ على سَطحٍ واحِد !
مَنْ قالَ إنَّ أرضَ هؤلاءِ وَبِلادَهُم ليستْ عَزيزةً عليهِم ، مِثلَ عِزَّةِ أرضِنَا علينا ؟ فَلْتَتَوَقَّفْ عَشْوَائيَّاتُ الكَراهِيَةِ هذه ، لِنَظَلَّ نَشْعُرُ أنَّنَا جميعاً بَشَرٌ وَعَرَبٌ وَلُبنانِيّون ، وأبناءُ دَولةٍ واحدة ، وَنِظَامٍ واحِد . وأنَّ هناكَ حكومةً مَسؤولة ، تَستَطيعُ اتِّخاذَ القرارِ المُناسِبِ لِلمَصالِحِ الوَطَنيَّة ، مهما كانتِ التَّمَايُزَات.
أيُّها المسلمون ، أيُّها اللبنانيّون :
نحن في أزمةٍ اقتِصادِيَّةٍ كُبرى، بل وفي أزمَةٍ سياسِيَّةٍ كُبرى . لقد ذهبتْ حكومةُ الرَّئيس سعد الحريري باتِّجاهِ العرب ، وباتِّجاهِ المؤتَمَراتِ الدَّولِيَّة ، مِنْ أجلِ المُساعَدَةِ والتَّعَاوُن ، وَتَطلُبُ الدَّعمَ للمُعَالجةِ والخروجِ مِنْ عُنُقِ الزُّجاجة . لكنْ كيفَ سَيُسَاعِدُنا الآخَرونَ إنْ لم نَسْتَطِعْ أنْ نكونَ على قلبِ رجلٍ واحِدٍ في مُكافَحَةِ الفَسَادِ والهَدْر ؟ وفي إنفاذِ الخُطَطِ والمَشروعاتِ التي جَرَى الاتِّفاقُ عليها ؟ وبَدَلاً مِنَ التَّجنيسِ واتِّهَامِ الدَّولِيِّين ، يكونُ على أصحابِ المَطَالِبِ وَالحِصَصِ التَّنَازُلُ عن أنانِيَّتِهِم ، والتَّعَاوُنُ مَعَ رئيسِ الحكومةِ المُكلَّف، مِنْ أجلِ إنجازِ التَّركيبةِ الوَزارِيَّة ، والانطِلاقِ لِلعَمَلِ الجادّ ، ونخشى أن يكون هناك عقباتٌ وعراقيلُ لتأخيرِ تشكيلِ الحكومةِ التي يُعْقدُ عليها الآمال ، وهذا يتطلبُ من جميعِ القوى السياسيةِ ، المساعدةَ في تذليلِ العوائقِ أمامَ ولادةِ الحكومةِ في أسرعِ وقتٍ ممكن ، لان التأخيرَ لا يصبُّ في مصلحةِ أحد ، والمتضررُ هو الوطنُ والمواطن.
هناكَ صِراعاتٌ هائلةٌ في المَنطِقةِ مِنْ حَولِنا ، ولا يُفيدُنا في شيءٍ زيادةُ الخصومِ والأعداءِ في كُلِّ يوم ، سواءٌ أكانوا عرباً أم دَولِيِّين، والدُّخولُ في سياساتِ المَحَاوِرِ التي تَضُرُّ ولا تَنْفَع .
إنَّ المَطلوبَ الوقوفُ مَعَ الرَّئيس سعد الحريري سَوَاءٌ في تشكيلِ الحكومة ، أو في سياساتِه ، لِجَلْبِ الدَّعمِ لِلبنان . نحن في غَمْرةِ الامْتِحان ، هل ننجحُ وَيَنجَحُ بلدُنا، وَيَستَعيدُ أبناؤُهُ التَّنَفُّسَ والخروجَ مِنَ الاختِنَاق ؟ أو تُصبِحُ صِراعاتُ الهُوِيَّاتِ الصغيرة، وصِراعاتُ المَحَاوِرِ والتَّحَزُّبات، هي المِقصَلةُ التي تُمْتَحَنُ عِندَهَا الرُّؤوسُ والأجساد ؟
أيُّها المسلمون :
رمضانُ شهرُ الصَّبرِ وشَهرُ الشَّجَاعةِ ضِدَّ هَوَى النَّفسِ وَجَشَعِها . وَهوَ شَهرُ الانضِباطِ في القولِ والعمل . وكَمَا نَجَحْنَا في صَومٍ طويل، وَتَعَبُّدٍ طويل ، يكونُ عليكم أيُّها المسلمونَ بالذَّات ، أنْ تُثْبِتُوا نَجَاحَكُم ونَزَاهَتَكُم وَشَجَاعَتَكُم في عدَمِ الوقوعِ فيمَا وقعَ فيهِ كثيرٌ مِنَ الشُّركاءِ في الوطن . ليسَ مِنَ المَصلحةِ ولا مِنَ الوَطَنِيَّةِ ولا مِنَ الإسلامِ في شيء ، الدُّخولُ في تذمُّراتِ وَتَطَلُّباتِ الحِصَصِ والمَغَانِم ، مهما بدا ذلكَ مُغرِياً وَمُبَرَّراً بأنَّ الآخَرينَ يُقومونَ بذلك .
إنَّ علينا التَّمَسُّكَ بالطَّائفِ والدُّستورِ والعَيشِ المُشتَرَك ، ودَعوةَ الآخَرينَ إلى الشَّيءِ نَفسِه . إنَّ العَقدَ الاجتِمَاعِيَّ والدُّستورِيّ ، إنَّمَا يَنعقِدُ مرَّةً واحِدةً لا عَودَةَ عنها ، لا بالاسْتِبدال ، ولا بِخَلقِ أعرافٍ نَقيضَةٍ بالمُمَارسَة . وصَدِّقوني أنَّه لن يَفوتَكُمْ شيءٌ حتى لو تَفَوَّقَ الآخَرونَ في التَّناوُشِ وَالقِسْمَةِ التي لا تَنْتَهي . فَعَبْرَ تاريخِ لُبنانَ الحديث ، سَعَى كثيرونَ – طَوائفَ وأفراداً وأحْزاباً لِلغَلبة – فَتَكَسَّرتْ أَنْيَابُهُم وَرِماحُهُم على صَخْرةِ هذا الوطنِ الصُّلبة . إنَّ عيشَنا المُشتَرَك ، هو هذه الصَّخرةُ التي لا يُمكِنُ تحطيمُها مهما تَحَكَّمَتِ الغرائز ، وتَصاعَدَتِ الإيهامَاتُ والأوهام.
أيُّها المسلمون ، أيُّها اللبنانيّون :
أُريدُ إطلاعَ الشركاءِ في الوَطَن ، وإطلاعَ مَنْ لم يَشْهَدْ ذلكَ مِنكُم، على تَجربةٍ عَذبةٍ وَسَلِسَةٍ وَروحِيَّةٍ في مَساجِدِ لبنان ، بِقِيَامِ ليالي الشَّهْرِ المباركِ، والتَّعَبُّدِ فيه.
لقد كان المسلمون يقومون الليلَ بالصَّلاةِ والدُّعاءِ بِحُرقة، وَيَسْعَونَ لإحساسٍ عميقٍ بسلامِ النَّفْس ، وسَلامِ الفِطرة ، وسلامِ الدِّينِ الخالص . ما سَمِعْتُ أحداً يدعو على أحد ، أو يَتَمَنَّى السُّوءَ لأحد . كلُّ القائمين والمُتَعَبِّدِين والقانتِين والرَّاكعين والسَّاجدين، يطلبون رحمةَ اللهِ ونِعْمَتَه ومَغفِرتَه ، وأنْ تُرتَفِعَ هذه المِحَنُ والفِتَن، وأنْ يَعودَ الرُّشْدُ إلى النُّفوسِ والعقول . وقد حَفَلَ جمهورُ المُتَعَبِّدين بالأطفالِ والفِتيان ، وَعَشَراتِ أُلوفِ النِّساءِ في صَلواتِ التَّراويح ، وصلواتِ التَّهَجُّدِ والقنوت . وإنني إذْ شَهِدْتُ هذه الظَّاهرةَ الغَنِيَّةَ والرَّائعةَ وَقدَّرْتُها ، والتي تَنِمُّ عن إحساسٍ عميقٍ بالإيمانِ والخشوع، وتَطَلُّبِ مَرضاةِ المَولى عزَّ وجلّ ؛ فإنَّني وَمِنْ وَحيِ هذا الرُّوحِ الحيِّ المَشبوبِ، أدعو المسلمين وسائرَ اللبنانيِّين إلى الالتفافِ والتَّضامُنِ مِنْ حولِ المؤسَّساتِ الخيريَّةِ والتَّعليمِيَّةِ التي ازدادتْ أعباؤها ومسؤولِيَّتُها ، ولم تَزْدَدْ مَوَارِدُها . هناكَ مئاتُ الألوفِ مِنَ المُحتاجين المُتعَفِّفين . وهناكَ الحاجةُ إلى إنقاذِ المَرافِقِ التَّعليمِيَّة ، بعدَ زيادةِ أعبائِها كما تعلمون.
إنَّ مساعدَةَ هذه المؤسّساتِ التي أُثقِلتْ كوَاهِلُها ، هي جُزءٌ مِنَ العِبادَةِ أيضاً . وهي الجُزءُ الذي يُمْتَحَنُ فيه الإيمانُ أشَدَّ الامْتِحان. قالَ تعالى : ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ، لقد كانتِ المَرافقُ التَّعليمِيَّةُ المُتَفَوِّقةُ مِيزةً بارِزةً لِلبنان ، وَيَنبغي أنْ تَبقى كذلِكَ .
أُهنِّئُ المسلمين واللبنانيِّين جميعاً بعيدِ الفِطر . وأسألُ اللهَ تعالى أنْ يَحوطَ وَطَنَنَا وإنسانَنَا بِعِنايتِهِ ورحْمَتِه ، وأنْ يُهيِّئَ لنا مِنْ أمْرِنا رَشَداً، وأنْ يَحْتَسِبَ لنا عِبادَاتِنا ، وأنْ يَجْعَلَ مُسْتَقْبَلنَا أفضَلَ مِنْ حاضِرِنا. قالَ تعَالى ، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
باركَ اللهُ لكم أيُّها المسلمون صومَكم وفِطرَكُم ، وصلاتَكُم وزكاتَكُم وعمَلَكُم ، مِنْ أجلِ الخيرِ والبِرِّ والتقوى .
وبعد إلقاء المفتي دريان خطبة عيد الفطر توجه وسفراء الدول العربية إلى ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري حيث قرأ الفاتحة عن روحه الطاهرة ورفاقه الأبرار.
وكان الرئيس تمام سلام قد اصطحب مفتي الجمهورية من منزله صباحا إلى مسجد محمد الأمين يرافقهما رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني وقائد شرطة بيروت العميد محمد الايوبي في موكب رسمي وقدمت ثلة من قوى الأمن الداخلي التشريفات في باحة المسجد للرئيس سلام والمفتي دريان