أخبار مفتي الجمهورية

كلمة سماحة المفتي في حفل افتتاح أعمال المؤتمر العالمي بعنوان: ” قيم الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنة”

القى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان كلمة في حفل افتتاح أعمال المؤتمر العالمي بعنوان قيم الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنة الذي تنظمه رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة برعاية  خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.

وقال المفتي دريان: يأتي هذا المؤتمر العالمي في رحابِ مكةَ المكرمة، وفيها قِبلةُ العربِ والمسلمين، ومن أرضِ المملكة العربية السعودية مملكةِ الحزمِ والعزمِ والخيرِ والعطاءِ، الحريصةِ والمؤتمنةِ على القضايا العربيةِ والإسلاميةِ المحقةِ، بتوجيهٍ كريمٍ ومباشر، من حامي الحرمين الشريفين ، الحريصِ على رفعةِ وعزِ الأمتين العربية والإسلامية فتحيةٌ ملؤُها الوفاءُ والامتنانُ والتقديرُ الكبيرُ للمملكة العربية السعودية قيادةً وحكومةً وشعباً، من كل عربيٍ ومسلم، يفتخرُ ويعتزُ بقيادتكم الرشيدة .

أضاف: هناك ثلاثةُ مُفردات، هي سِمَاتُ الأُمَّةِ الوَسَط ، وهي: القِوامةُ والشَّهَادَةُ وَالقِسْطُ. أمَّا القِوامَةُ والشَّهادَةُ فَهُما أَمرانِ مَبْدَئيَّان، قَاعِدَتُهُمَا الكَلِمَةُ السَّوَاء، فالتَّشدِيدُ على الوَحْدَانِيَّة، وَعَلى عَدَمِ التَّربُّب، هُمَا القِوَامُ النَّظَرِيُّ للشَّرَاكَة، أَوِ القَوَاسِمُ المُشْتَرَكَةُ مَعَ أَهلِ الكِتَاب، وَهُمَا الأساسُ لِلتَّعارُفِ بِالقِسْطِ مَعَ النَّاسِ جَمِيعاً، على مُستَوَى السِّيرَةِ والسُّلُوك.

نَحنُ أُمَّةُ دَعوَة، وَلِلتَّعَارُفِ سُبُلٌ لا تَتَنَاهَى، بِقَدْرِ مَا يَكُونُ القِسْطُ سُلُوكَاتٍ وَسَطًا لا تُسْتَنْفَد، هذا هو نَهْجُ الأُمَّةِ الوَسَط ، وَقِوَامُهَا وَشَهَادَتُها . وَيكونُ علينا أَنْ نَعْتَرِفَ أنَّ الاخْتِلالَ نَالَ مِنَ الأَمْرَين: أَمْرِ الالْتِزَام ، أَمْرِ نَهْجِ الأُمَّةِ الوَسَط ، بِشُيُوعِ الانْشِقَاقَاتِ بِدَوَاخِلِنَا ، وَأَمْرِ التَّعَارُفِ بِشُيُوعِ سُوءِ العَلاقَةِ مَعَ العَالَم . وَليسَ مِنَ المُفيدِ اعتبارُ الأَمْرِ الثَّانِي نَاجِمًا عَنِ الأَمْرِ الأَوَّلِ أَوِ العَكْس. بِمَعنَى أنَّ المُتَغَيِّرَاتِ بِالدَّوَاخِل، ليسَتْ بِالضَّرُورَةِ رُدُودَ أَفْعَالٍ على مُتَغَيِّرَاتِ الخَارِج ، كَمَا أَنَّ مُتَغَيِّرَاتِ الخَارِج ، ليْسَتْ بِالضَّرُورَةِ رُدُودَ أَفعَالٍ على مُتَغَيِّرَاتِ الدَّاخِل. لقد حَدَثَ الأَمْرَانِ في الوَقتِ نَفسِهِ تَقرِيباً، وَسَادَ التَّنَكُّرُ وَالإنكَارُ مِنَ الطَّرَفَين، أَوِ الأَطْرَافِ المُخْتَصَّة، بِحَيثُ انْصَرَفَ كُلُّ طَرَفٍ إلى إِلقَاءِ المَسْؤُولِيَّةِ على الطَّرَفِ الآخَر .

وتابع: لِأَنَّنَا الأُمَّةُ الوَسَط ، وَمَطلُوبٌ مِنَّا دَائماً أنْ نَكونَ الشُّهَدَاءَ على النَّاس، وَأَنْ نَظَلَّ مُتَأَهِّلِينَ لِشَهَادَةِ الرَّسُولِ الخَاتَمِ لنَا، فَيَنْبَغِي أَنْ نَمْتَلِكَ المُبَادَرَة، أَو نُبَادِرَ لاجْتِرَاحِهَا. وَقَدْ قُمْنَا في السَّنَوَاتِ الخَمْسِ المَاضِيَة، مِنْ خِلالِ سُلُطَاتِنَا وَمُؤَسَّسَاتِنَا الدِّينِيَّة، بِالحَمْلَةِ عَلى التَّطَرُّفِ وَالإِرهَاب، بِاعْتِبَارِهِمَا العَدُوَّينِ الحَاضِرَينِ لِدِينِنَا وَلِدُوَلِنَا، وَلِحُضُورِنَا في العَالَم. وَقَد كَانَ ذَلِكَ أَمْراً إِيجَابِيّاً وَمَطلُوباً، لِأَنَّ البِرَّ وَالقِسْطَ مِنْ أَخْلاقِ الأُمَّةِ الوَسَط. وَقَد أَثَارَتْ جُهُودُنَا رُدُودَ فِعلٍ مُخْتَلِفَةً أَو مُتَبَايِنَة. فَمِنْ جِهَة، هُناكَ أَطْرَافٌ مُعْتَبَرَة، اِسْتَجَابَتْ لِدَعَوَاتِنَا وَمَسَاعِينَا ، وَمِنْهَا أَطْرَافٌ دِينِيَّةٌ وَأُخرَى سِيَاسِيَّة. إنَّمَا هُنَاكَ أَطْرَافٌ قَرِيبَةٌ وَبَعِيدَة، أَصَرَّتْ على الإدَانَة، وَزَادَتْ في حَمَلاتِهَا على دِينِنَا وَمَا قَبِلَتِ الشَّرَاكَاتِ التي عَرَضْنَاهَا وَنَعْرِضُهَا عَلَيهِم ؛ إِذِ اعْتَبَرَتِ العُنفَ جُزْءاً أصيلاً في دِينِنَا وَأَخْلاقِنَا. وَهَذَا إلى وُجُوهِ التَّذَمُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ التي يُشِيعُهَا أُنَاسٌ سُذَّج، أَو لا خَلَاقَ لَهُم .

وَلِذَلِك، وَبِدُونِ إِنكَارٍ لِأَهَمَّيَّةِ مَا قَامَتْ بِهِ مُؤَسَّسَاتُنَا وَسُلُطَاتُنَا في مُكَافَحَةِ التَّطَرُّفِ العَنِيف، أَرَى أَنْ تَتَعَاظَمَ مُبَادَرَاتُنَا بِاتِّجَاهِ البَدَائلِ التي تَتَوَجَّهُ نَحوَ الدَّاخِلِ وَالخَارِج. فَالدِّينُ أو دِينُ الأُمَّةِ الوَسَط ، هُوَ في الأَصْلِ وَالمَنْزِع، قُوَّةٌ نَاعِمَة، وَهِيَ تَعْتَمِدُ قُوَّةَ القُدْوَةِ بِالدَّاخِلِ وَالخَارِج. نَحن مُحتَاجُون ، وَبِمُقْتَضَى سَبِيلِ الأُمَّةِ الوِسِط ، إلى التَّأَهُّلِ وَالتَّأْهِيل ، وَهُمَا أَمْرَانِ يَقْتَضِيهِمَا التَّعَارُف. وَذَلِكَ لِأَنَّنَا نَتَعَارَفُ مَعَ الآخَرِينَ على مَنَاهِجِ المَعرُوف . وَمَا عَادَ المَعرُوفُ وَاحِداً في دَوَاخِلِنَا، وَلا هُوَ وَاحِدٌ اليوَمَ على المُستَوَى العَالَمِيّ. فَلا بُدَّ مِنْ أَنْ نَقبَل، وَفي ضَوءِ الفَهْمِ المُتَجَدِّدِ لِلكِتَابِ وَالسُّنَّة، على مَعرِفَةِ مُجْتَمَعَاتِنَا وَشَبَابِنَا أَكْثَر، وَعلى مَعرِفَةِ العَالَمِ وَمُتَغَيِّرَاتِهِ أَكْثَر . إنَّ الرُّوحَ الذي يَنْبَغِي أَنْ يَسُودَ في أَوسَاطِنَا نَحن أَهلَ العِلمِ وَالدَّعوة ، هي الرُّوحُ الاحْتِسَابِيّ .  فَإنَّ التَّأَهُّلَ لَيسَ أَمراً تِقْنِيّاً فَقَط ، مِنْ خِلالِ العَمَلِ المُتَجَدِّدِ على بِنَاءِ المُؤَسَّسَات ؛ بلْ يَتَضَمَّنُ التَّأَهُّلَ أيضاً أو في الأَسَاسِ الاحْتِسَابَ الأُخْرَوِيّ ، لِإِحْقَاقِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ في أَنْفُسِنَا، فَاللهُ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم . وَالقِسْطُ مِثْلُ المَعْرُوف، هُوَ مَفْهُومٌ جَلِيلٌ وَصَعب، لا يُمْكِنُ إِحْقَاقُهُ بِنَجَاحٍ إِلا بِالرُّوحِ الاحْتِسَابِيّ، في ظِلِّ عِنَايَةِ اللهِ سُبحَانَهُ وَرَحْمَتِه.

وختم: إنَّ المَطلُوبَ لِاسْتِعَادَةِ نَهْجِ الأُمَّةِ الوَسَط ، وَالاهْتِدَاءِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم ، هُوَ الاسْتِمْرَارُ بِالتَّأَهُّلِ وَالتَّأْهِيلِ لِنَشْرِ البُشْرَى : ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً﴾ . وهذا هُوَ الاحْتِسَابُ بِعَينِه ، أيِ العَمَلُ الصَّالِح ، مِنْ أَجْلِ الأَجْرِ جَزَاءً وَاحْتِسَاباً.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق