أخبار مفتي الجمهورية

كلمة سماحة المفتي بمناسبة شهر رمضان المبارك لعام ١٤٤١ هجرية

وجه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان

 رسالة الى اللبنانيين بمناسبة شهر رمضان الاتي نصها:

الحمدُ للهِ الذي شرعَ لعبادِه الصيام ، لتهذيبِ نفوسِهم وتطهيرِهم من الآثام ، أحمدُهُ تعالى وهو المستَحِقُ للحمدِ ، وأشكرُه على نعمِهِ التي تزيدُ عن العَدّ .

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله ، وحدَهُ لا شريكَ لَهُ في عبادتِه ، كما أنه لا شَريكَ لَهُ في مُلكِه. 

وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ، أتقى من صَلَّى وصَامَ وحَجَّ واعْتَمَر، وأطاعَ ربَّهُ في السِرِّ والجَهْر، صَلَّى اللهُ عَلَيْه ، وعلى آلِه وأصْحَابِه ، ومن سارَ على نهجِه وتمسَّكَ بسنتِه إلى يومِ الدِّين ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً . وبعد:

يقول المَوْلى تَعَالى في مُحكمِ تَنْزِيلِه :﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون :

يَحِلُّ علينا شَهرُ رَمَضان ، شهرُ الصَّومِ في هذا العَام ، والبلادُ والعِبادُ في أَزَمَاتٍ مُتَراكِبة، يَخْتَلِطُ فيها الاقتصاديُّ بالماليِّ والمَعيشِيِّ والصِّحِيّ ، والوَبَائيِّ والسِّياسِيِّ والاجتِمَاعِيّ . ويُلقِي ذلكَ كُلُّهُ على عَوَاتِقِنَا نحن أهلَ الدِّينِ والإيمان ، مَسؤولِيَّاتٍ خاصَّة ، على اختلافِ القُدُراتِ والأحوال . إنّهُ اختِبَارٌ كبيرٌ وشاقٌّ وصَعَبٌ ، للإيمانِ والثَّباتِ والصَّبْرِ والأخلاق ، والعلاقاتِ الإنسانيَّة ، والثِّقةِ بِرحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وَوَعْدِه : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ .

كُلُّ هذه المعاني والأخلاق ، تَحْضُرُ بل تَحْتَشِدُ في شهْرِ رمضان ، ولِذلِك ، قالَ اللهُ سُبحَانَه عنْ شهرِ رَمضانَ في القرآنِ الكَريم : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ .  

وَهكذا ، فللصَّومِ بِحدِّ ذاتِه ، ولِلصَّومِ في رَمَضانَ أسبابٌ عِدَّة :

السببُ الأوَّل :  أنَّهُ عِبادةٌ دِينِيَّةٌ افْتَرَضَهَا اللهُ تعالى على المؤمنين ، كمَا تَنُصُّ على ذلِكَ الآيةُ القرآنيةُ الكريمة : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .

السببُ الثَانِي :  أنَّهُ شُكْرٌ للهِ سُبجانه على رَحْمَتِهِ بإنزالِ القرآنِ الكريمِ ،  هُدَىً لِلنَّاس، وَبَيِّنَاتٍ وفُرقاناً بينَ الحقِّ والباطِل . وهُوَ شُكرٌ لهُ عَزَّ وَجَلَّ على نِعمَةِ الهِدايةِ والاقتِنَاعِ والامْتِنان ، أَوَ لم يَقُلْ رسولُ اللهِ صَلوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليه : (إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ) ، تَصديقاً لِقَولِهِ عزَّ وجلّ : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ .

والسببُ الثَّالث : الاسْتِعْدَادُ الذي يَهَبُهُ الصَّومُ لِمُؤَدِّي الفَريضة ، لِتَقَبُّلِ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وجلَّ ، فقد قالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى بَعْدَ آياتِ الصَّومِ مُباشَرةً : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ، فالرُّشْدُ العَقْلِيُّ والأخْلاقِيُّ مُرْتَبِطٌ بِالصَّوم ، والمُرْتَبِطُ بِهِ أيضاً ، اِسْتِجَابَةُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لاسْتِغَاثَةِ المُؤْمِنِ ودُعائِه ، وَبِخاصَّةٍ إذا كانَ صائماً .

والسببُ الرَّابع:  أخلاقُ الصَّبْرِ والرَّحْمَةِ والمَوَدَّةِ والانْفِتاح ، التي يَكْتَسِبُها الصَّائمُ تُجاهَ القريبِ والبعيد ، وذلكَ التَّغْييرُ الذي يُداخِلُ رُؤيَتَهُ لِلعَالَمِ الإنسانيِّ والطَّبيعِيّ . ففي الحديثِ الصَّحيح ، يُقرِّرُ صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه أنَّه : (مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ).

أيها المؤمنون :

شهرُ الصَّومِ يَصْنَعُ إذاً المؤمِنَ القوِيّ ، الذي يَضْطَلِعُ بِمَسْؤولِيَّاتِهِ تُجَاهَ رَبِّه ، وَتُجَاهَ أُسْرَتِهِ ، وَتُجَاهَ مُجْتَمَعِه ، وَتُجَاهَ الإنسانِيَّةِ جَمْعَاء . وهذه هي الأهمِّيَّةُ الخَاصَّةُ لِلصَومِ في مُوَاجَهَةِ الأزَمَاتِ التي نُعانيهَا هذه الأيَّام ، والتي ذكَرْناها في افتِتَاحِ هذهِ الكلِمة.

كُلُّ البشرِيَّةِ مَسؤولةٌ عمَّا يَحْفَظُ مَصَالِحَها وَمَصَالِحَ العَالمِ الإنسانيِّ والطَّبيعِيِّ في الحياةِ والعَيشِ وَالتَّصَرُّف . إنَّما وَكَمَا سَبَقَ القَول ، نحن المؤمنين مَسؤولون بِوَجهٍ خاصّ ، وَمَطلوبٌ مِنَّا القِيامُ بِأداءِ الرِّسالةِ الحافِظَةِ لِحياةِ الإنسان ، وَالضَّامِنةِ لِلرُّشْدِ الإنسانيّ .

مَا تَزَالُ القُوَى الكُبْرَى في العَالَمِ تَتَصَارعُ بِشأْنِ الجِهَةِ التي تَسَبَّبتْ في هذا الوَبَاءِ الفَظِيع ، الذي يَكَادُ يُغَيِّرُ الحياةَ على وَجْهِ الأرض . وقد عَرَفَ البَشَرُ مِنْ قَبْلُ أمْراضاً مُعْدِيةً وَأَوْبِئةً كانوا يُسَمُّونَها الطَّوَاعين ، أوِ المَوتَ الأسْوَد . بَيْدَ أنَّ المُتَغَيِّراتِ الصَّاعِقَة، سواءٌ في العَالمِ الطَّبيعِيّ ، أوِ العَالمِ الإنسانِيّ ، التي صارتْ تَحْدُثُ في أزْمِنةٍ مُتَقارِبة ، فَهناكَ شِبْهُ إجْماعٍ مِنْ جانِبِ الخُبراء ، على أنَّها مِنْ مَوَاريثِ الإساءةِ إلى الطَّبيعةِ والإنسان ، مِنْ طريقِ الاخْتِراقاتِ المُتكاثرةِ لِلنِّظامِ الكَونِيّ ، وَلِعَوَالِمِ الإنسانِ والحيوان ، والطَّبيعَةِ بَرّاً وبَحراً وَفَضَاءَات . وَلِذلِك ، أرى أنَّ رِسالَتَنا نحن أهلَ الدِّين ، وعلى مَشَارِفِ شَهرِ رمضان ، وفي كُلِّ حين ، الدَّعوةُ إلى الرُّشْدِ الإنسانيّ ، قَالَ تَعَالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ . 

إنَّ الاسْتِجَابَةَ للهِ سُبحانهُ وَتَعالى ، تكونُ بالرَّحْمَةِ لِعِبادِه ، وَصَونِ الحياةِ الإنسانِيَّةِ والطَّبيعِيَّة . وقدِ اعْتَبَرَ العُلُماءُ أنَّ وَاجِبَ حِفْظِ النَّفْس ، هُوَ رأْسُ مَقاصِدِ الشَّريعة . وما مِنْ حِفْظٍ لِلنَّفْسِ الإنسانِيَّة ، وَسْطَ الاعْتِداءِ بِكُلِّ سبيلٍ على حياةِ الإنسانِ والإنسانِيَّة ، تارةً باسْمِ التَّقَدُّمِ العِلمِيّ ، وَطَوراً بِاسْمِ الصِّراعِ على المَوَارِد ، والسَّيطَرَةِ على المَجالاتِ الاسْتَراتيجيَّة . ثمَّ كيفَ يَكونُ حِفْظُ النَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ مُمْكِناً ، ما دَامَ حَوَالى ثُلُثِ بني البشَر ، يُعَانونَ الجُوعَ والقَتْلَ والتَّهْجير ، والظُّلْمَ الاجْتِمَاعِيَّ والاقْتِصادِيَّ والسِّياسِيّ . وليسَ هناكَ مَثَلٌ أفضلُ على وَحْدَةِ الإنْسانِيَّة ، وُجُوداً ومَصَائرَ مِنْ هذا الوَباءِ الهائل ، وَيَنْبَغي أنْ يَكُونَ الدَّرسُ لدى المؤمنين وغَيرِ المؤمنين، مِنْ ذَوِي الرُّشْد، التَّضامُنَ في التَّصدِّي لِمَا يُهَدِّدُ حياةَ الإنسانِ والبيئاتِ التي تُحيطُ به ، ويَعيشُ فيها ، وَيَنْبَغي أنْ يَظَلَّ العَيشُ مُمْكِناً فيما وراءَ حُروبِ الأوبئةِ والأسْلِحَة ، والتَّلوُّثِ البيئيّ ، والتَّلوُّثِ التَّكْنولوجِيّ .

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون :

لسنا مَسؤولين بالتأكيدِ عَنْ حُصولِ الوَباء ، ولا عَنِ الأزمةِ الاقتصادِيَّةِ العَالمِيَّة. لكِنَّنا مَسؤولون عَنِ الأزَمَاتِ الاقْتِصادِيَّةِ والمَالِيَّة ، والنَّقدِيَّةِ والمَعِيشِيَّة ، التي يُعانيهَا مَلايينُ اللبنانيِّين . وَيَقَعُ القَدْرُ الأكْبَرُ مِنَ المَسْؤولِيَّةِ على عَوَاتِقِ الطَّبَقَةِ السِّياسِيَّة ، وكُلِّ الخُبَراءِ وَالمُهْتَمِّينَ بِإدارةِ الشَّأْنِ العامّ . فالسِّيَاساتُ الاقْتِصَادِيَّةُ والمَالِيَّة ، سِياساتٌ طويلةُ الأمَد . والكُلُّ يقولُ اليوم : إنَّ الانْهِيَارَاتِ كانَتْ مُتَوَقَّعَةً وفي شَتَّى المَجَالات . والكُلُّ يقولُ اليوم : إنَّهُ ما كانتْ هناكَ في السَّنواتِ الأخيرةِ مُحاولاتٌ جِدِّيَّةٌ لِلإصلاح. والكُلُّ يقولُ اليوم : إنَّ لبنانَ الرَّسْمِيّ ، تَنَكَّرَ لِلمَصالِحِ الوَطَنِيَّةِ الاسْتَراتِيجِيَّةِ التي تَرْبِطُنا بِالعَربِ والمُجتَمَعِ الدَّولِيّ . والكُلُّ يقولُ اليوم : إنَّ العَمَلِيَّةَ الثُّلاثِيَّةَ الأطْرافِ بينَ الإدارةِ السِّيَاسِيَّة ، والبنكِ المَركَزِيّ ، والقِطَاعِ المَصْرِفِيّ ، كانَتْ في مُجْمَلِها عَمَلِيَّةً انْتِحَارِيَّةً لِلمُوَاطِنِ والوَطَن ، والنِّظَامِ السِّياسِيّ ، والاقتِصَادِ الحُرّ. وَلسْتُ أذْهَبُ إلى أنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ بعدَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ تِشرينَ الأوَّل ، كانَ صَوَاباً ، لكِنَّهُ كانَ إنْذاراً وَإنْ مُتَأَخِّراً بِالانْهِيَارِ الذي حَدَث ، وَمَا تَزَالُ وَقائعُهُ جاريةً يوماً بيوم.

كُلُّ الطَّبَقَةِ السِّيَاسِيَّةِ اعْتَبَرتْ نَفْسَهَا مُسْتَهْدَفَةً بِالحَرَاكِ الشَّعْبِيّ ، وَتَعَاوَنَتْ وَتَضَامَنَتْ إلا القليلين ، لِلتَّخَلُّصِ مِنْه ، بَدَلاً مِنَ التَّفَكِيرِ بالإصْلاح ، وَالبَدْءِ بِهِ بِقوَّة . وَعلى أيِّ حال ، فإنَّ الأسْوَأَ قد وَقَع . وَلَسْنَا ضِدَّ إعطاءِ فُرْصَةٍ لِهذهِ الحُكومة ، التي أَعطتْ لِنَفْسِهَا سِمَاتِ الكَفاءَةِ والاخْتِصَاص . إنَّمَا بِصَراحة ، ما حَصَلَ شيءٌ إيجابيٌّ مَلمُوسٌ حتَّى الآن ، لا لِجِهَةِ وَضْعِ مَعَالِمَ كُبْرَى لِلإصلاح ، والبَدْءِ بِهِ بالفِعْل.

لقد سَتَرَتْكُمْ كُورونا ، إنَّمَا مَا العَمَلُ أمامَ انْهِيَارِ العُملة ، وَدَفْعِ مُرَتَّباتِ المَوَظَّفين، والحَيلولةِ دونَ جُوعِ أربعينَ في المئةِ مِنَ اللبنانيِّينَ الفُقراءِ في الأصْل ، الذين أُضِيفَ على هُمومِهِمْ فَقْدُ الوَظَائفِ والبِطَالةِ والغَلاء ، والخَوفُ مِنَ المَجْهولِ المُسْتَقْبَلِيّ ، الذي صارَ حاضِرًا!

لقد طَفَحَ الكَيلُ يا سَاسَةَ لبنان ، مِنَ المَأْسَاةِ اليَومِيَّةِ التي يَعِيشُها المُوَاطِن، مِنْ جُوعٍ وَفَقرٍ وإذلالٍ لِلنَّاسِ على أَبوَابِ المَصَارِف . نُطالِبُ الدَّولةَ أنْ تَرأَفَ بِمُوَاطِنِيها قَبلَ الانْفِجَارِ الذي يُهَدِّدُ الجَمِيع ، فلا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِيمَ الأُمُورُ إلا بِالمُحَاسَبَةِ واستعادةِ الأَمْوَالِ المَنهُوبَة ، والضَّربِ بيدٍ مِنْ حديد ، لإعادةِ تَنظِيمِ عَملِ مُؤَسَّساتِ الدَّولة ، لِتَعُودَ الثِّقَةُ المَفقُودَةُ مِنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِج . الأَوطَانُ لا تُبنَى بِالكلام ، بَلْ بِالعَمَلِ الجَادِّ الصَّادِق،  والظَّاهِرِ لِلعِيَان . شَبِعْنا وُعُوداً وَتَطمِينَات ، نُريدُ أنْ نَرى بِأُمِّ أَعْيُنِنَا الإصْلاحَاتِ الحَاسِمَة ، لِيَبقَى لبنانُ على خَارِطَةِ العَالَم ، وإلا فإنَّ الانهيارَ الذي نحن فيه الآن ، سيتَفاقم ، وَيَضِيعُ الوَطَنُ مِنْ بَينِ أَيدِي أبنائه .

لبنانُ يَسْتَحِقُّ التَّضحِيَةَ مِنَ الجَمِيع ، وَهَذا هو عَهْدُنا بِرجالِه ونسائِه . لن نَسْتَسْلم ، وَلن نَرضَخَ  لِلأَمْرِ الواقِع ، مِنْ أَزْمَةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ مُخِيفة ، قد تُودِي بنا إلى الإفلاس ، علينا أنْ نَكُونَ أَقوياءَ عُقلاءَ حُكَمَاء ، مُوَحَّدينَ لا غَوغَائيِّين. لقد مَرَّ على لبنانَ الكثيرُ مِنَ المَصَاعِبِ السِّيَاسِيَّةِ وَالاقتِصَادِيَّة ، والاجْتِمَاعِيَّةِ وَالمَعِيشِيَّة ، وآخِرُها أَزمَةُ كُورُونا الصِّحِّيَّة ، التي سنجتازُها بِوَحدَتِنا وَتَعَاوُنِنَا وَتَضَامُنِنَا ، لا نُريدُ العَودَةَ إلى المَاضِي ، وَنَبشَ القُبُور ، ولا التَّجَنِّيَ على الآخَرين لِمَآرِبَ سِيَاسِيَّة ، فَلْنَطْوِ الصَّفحَة ، وَلْنفْتَحْ صَفحَةً جَدِيدَة ، تَحتَ شِعَار : لبنانُ يَستَحِقُّ التَّضحِيَةَ وَالعَمَلَ مَعاً مِنْ أجلِ الخروجِ مِمَّا نحن فيه مِنَ تفتُّتٍ وانْهيار .

ندعو السَّاسَةَ إلى الإقلاعِ عَنِ الكَيدِيَّةِ السِّيَاسِيَّة ، وإطلاقِ الشعاراتِ الاستفزازِيَّةِ التي يُمَارِسُها البَعضُ لِأهْدَافٍ خَاصَّة ، لا تَخْدُمُ الوَطَن ، بَلْ تَضُرُّ بِه وبأبنائِه ، فَكُلُّنَا في الخَسَارَةِ وَاحِد ، وفي الرِّبحِ وَاحِدٌ أيضَاً .

مِنْ هنا، نُنَاشِدُ المَجلِسَ النِّيَابِيَّ الكريم ، أنْ يَنظُرَ إلى السُّجَنَاءِ  بَعَينِ الرَّحمَةِ وَالعَدل ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِقانونِ العَفْو ، بِأنْ لا يكونَ خَاصّاً، بل شاملاً وَلِمرةٍ واحدة ، وعفا اللهُ عمَّا سَلَف ، وَلْتَكُنْ هذه المُبَادَرَةُ بَاكُورَةَ خَيرٍ لِكُلِّ السُّجَنَاءِ وَأهلِيهم ، الذين يُعانون الأمَرَّينِ لِتَأْمِينِ حَاجَاتِهِم ، وَنُنَبِّهُ إلى أنْ لا تَكُونَ هذه الخُطوَةُ نَاقِصَةً ، كي لا تَنْعَكِسَ سَلباً على باقي السُّجَنَاءِ وَأَهلِيهِم .

أيها المسلمون، أيها اللبنانيون :

إنَّ مِنْ حَقِّكُمْ وَضْعَ المَسؤولِيَّاتِ على عاتِقِ الحكومةِ والعَهْد . إنَّمَا ماذا نَفْعَلُ وَالتَّقْصِيرُ حاصِل ، وَمَا عادَ الانْتِظَارُ مُمْكِناً ؟ نحن اللبنانيِّين في القِطَاعَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالمَدَنِيَّة ، وَأوساطِ الشَّباب ، والنِّقاباتِ والجَمعِيَّاتِ الخيريَّة ، والمُتَطَوِّعينَ النَّاشِطين ؛ نحن جميعاً نستطيعُ أنْ نَصْنَعَ فَرْقاً ، وفي شهرِ رَمَضانَ بالذَّات . لقد نَشَطَتِ الجِهاتُ الطِّبِّيَّةُ – وهي تَقتضِي مِنَّا الشُّكر – وكذلِكَ المِئاتُ مِنَ المُتَطَوِّعينَ العامِلينَ في المَجَالِ الطِّبِّيّ ، والاسْتِشْفائيّ ، والآخَرينَ في المَجالِ الاجْتِماعِيِّ والإنسانِيّ ، كُلُّ هؤلاءِ الفتياتِ والفِتْيان ، يُحْمَدون على هِمَّتِهِم وَنُبْلِهِم ، وَانْدِفاعِهِمْ وتَعْريضِ أَنْفُسِهِم للأخْطَار ، لكنَّ الذي ثبتَ لنا أنَّ أفضلَ المُؤَسَّساتِ مُسْتَشْفَياتٍ كانتْ أو مدارِسَ أو جامِعات؛ تُعاني قُصُوراً شديداً ، فكيفَ بِالجِهاتِ الخَيريَّةِ والاجتِمَاعِيَّة ، التي ازدادتِ الأعباءُ عليها والمَسْؤوليَّاتُ وَالاحْتِيَاجَات ، وَتَراجَعَتِ المَوارِدُ لِتَراجُعِ قُدُراتِ المُحسنين على الإسْهام ، وتَراجُعِ مَقاديرِ المَوارِدِ الآتيةِ مِنْ جِهاتِ الدَّعمِ العربيَّةِ أوِ الدَّولِيَّة ؟

أيها المسلمون :

يَعِزُّ علينا أنْ نستقبلَ شَهرَ رَمَضَانَ المُبارَك ، وَالمَسَاجِدُ مُغلَقَةٌ أَبوَابُها ، بِسَبَبِ تَفَشِّي جَائحَةِ كورونا ، ونقولُ للمسلمين : لا تَقْنَطُوا ، فإنَّ رَحمَةَ اللهِ وَاسِعَة ، وَصَلاتُنا سَتَبْقَى قَائمَةً في بُيوتِنا إلى أنْ يَرفَعَ اللهُ عَنَّا هذا الوَبَاء . وَسَنَبْقَى على تَوَاصُلٍ مَعَ المَسؤُولين في الدَّولة ، وَمَعَ الأطباء ، لِجَلاءِ الصُّورَة ، وإعلانِ انتِهَاءِ الحَجرِ الصِّحِيّ ، لنزِفَّ للمسلمين بُشْرَى العَودَةِ إلى مَسَاجِدِنا في وقتٍ قريبٍ بإذن الله.

ولمُناسبَةِ الشهرِ المبارك ، يُخبِرُنا الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعين : إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلّم، كانَ سَمْحاً جَوَاداً في كُلِّ الأوقات ، أمَّا في رمضان ، فإنَّه كانَ أجودَ مِنَ الرِّياحِ المُرْسَلَة . إنَّها مَواقِعُ رحمةِ اللهِ سُبْحَانَه ، ونحن نتلمَّسُها في رمضانَ ، مِنْ طريقِ التَّخلّي عنِ الأنانِيَةِ إطلاقاً ، والمُسارعَةِ إلى التَّضَامُنِ وعمَلِ الخير . كُلُّ الخُبَراءِ يَتَحَدَّثونَ عَنْ تَوَقُّعِ الجُوعِ والفَوضَى في لبنانَ . وأنا وَاثِقٌ بكُمْ أيها المؤمنون ، أيها المواطنون الأفاضل، وبِغضِّ النَّظَرِ عَنِ الإمكاناتِ ، فالرَّسولُ صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ يقولُ لأَصْحَابِه: لِيَتَصَدَّقْ أحَدُكُمْ ولو بِشِقِّ تَمْرة!

نعم أيُّهَا الإخوة ، أيُّهَا القَادرون ، أيُّهَا الرَّاجونَ رحمةَ اللهِ وفَضْلَه ، ما عَادَتْ هناكَ حاجةٌ ولا قُدْرةٌ على الإخفاءِ أوِ المُجاملة . هذه المُؤَسَّسَاتُ الخيريَّة، والجِهَاتُ العامِلةُ في الزَّكاةِ والصَّدقات ، وأعمالِ رِعايةِ الأيتامِ والعَجَزة ، والمدارسِ المجَّانِيَّة ، والأخرى المُتخَصِّصةِ بذوي القُصُورِ والعَاهَات ، وَجَمْعِيَّاتِ مُكافَحَةِ الفَقْرِ وَالعَوَز ؛ كُلُّ هذه الجِهاتِ وغيرُها تَنتَظِرُ أيادِيَكُمُ الحَانِيَة ، وَثِقَتَكُمْ وإيمَانَكُمْ بِربِّكُمْ وَناسِكُمْ وَوَطَنِكُمْ ، والمَرافقِ الحَيوِيَّةِ التي تقومُ على المَصالِحِ الوَطَنِيَّةِ والإنسانِيَّةِ الباقية . لسنَا مَسْؤولينَ عَنْ جائحةِ كورونا، لكِنَّنَا لا نُريدُ أنْ نكونَ جميعاً مَسؤولينَ عنْ جَوائحِ الفَقْرِ والعَوَز ، وَمَا يُحدِثُهُ ذلِكَ مِنْ فَوضَى واضْطِرَابٍ لا تَتَحَمَّلُهُ بلادُنا المُتْعَبَة : المُتْعَبَةُ بِسِياسِيِّيها ، والمُتْعَبَةُ بِسِياسَاتِهِمْ الاقْتِصَادِيَّةِ والماليَّةِ الخاطئة ، والمُتْعَبَةُ أوَّلاً وَأخيراً بِتَضاؤلِ الرُّشْدِ السِّياسِيِّ والأخلاقِيِّ في وَطَنِنَا . فالغَوثَ الغَوثَ يا ربَّ العَالَمِين.

 أيها المسلمون :

أسألُ اللهَ تعالى لَنَا ولكُمْ صِياماً مَيسُوراً ، وَعَملاً صالِحاً مُتَقَبَّلاً ، وَالصِّحَّةَ في الأُسْرةِ وَالمُحيط ، واليُسْرَ في العَيشِ والرِّزْق ، وَقَبولَ الدُّعاء ، وَالرُّشْدَ في القَولِ وَالفِعْل :

قال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ . صَدَقَ اللهُ العظيم.

والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق