شهر رمضان المبارك

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ

الحمد لله رب العالمين خلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة السلام على سيدنا محمد الذي أرسله ربه بشيراً ونذيراً، ورضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين، وآل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وبعد: فإن لله في أيام دهركم نفحات، والعاقل من يتعرض لنفحات الله، ومن هذه النفحات ليلة القدر، ذلك أن الله تعالى فضَّل بعض الأيام على بعض، وبعض الشهور على بعض، وبعض الليالي على بعض، وبعض الأشخاص على بعض، وبعض الأماكن على بعض، فأفضل الأيام يوم عرفة، وأفضل الشهور شهر رمضان، وأفضل البقاع مكة المكرمة، وأفضل الليالي هي ليلة القدر، وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن رمضان مضمار الله لخلقه، فيه تتحد المشاعر كما الشعائر، وفيه صحائف تبيض، وذنوب تغفر، وسيئات تمحى، ورقاب من النار تعتق، وعليه فإن شهر رمضان مدرسة للمؤمنين  يفوز فيه الطائعون ويخسر من تخلى عن كرامة هذا الشهر العظيم، يقول عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه مسلم، ولقد أنعم الله تعالى على هذه الأمة بليلة عظيمٌ قدرُها، جزيلٌ ثوابُها، أُنزل فيها القرآن وفُرق فيها كل أمر حكيم، هي خير وأعظم من ألف شهر يقول الله تعالى فيها: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)﴾ (سورة القدر)، فالألف شهر هي ثلاثة وثمانون سنة وأربعة عشر يوماً، وليلة واحدة هي خير من ثلاثة وثمانين سنة، وسميت بهذا الاسم قيل هي مأخوذة من عِظَم القدر والشرف والشأن، أو لأنَّ العمل فيها له قدرٌ عظيمٌ لا يكون في غيرها من الليالي، وقيل لأن الله تعالى يقدّر فيها الأرزاق والآجال والأحداث، فيطلع ملائكته الكرام على ما قدره الله تعالى لعباده من سنة تالية مكتوباً ذلك في اللوح المحفوظ، ليعمل ملائكة الله تعالى بما قدره الله تعالى على عباده، فيُبرم فيها كل أجل وعمل وخَلْق ورِزق، وما يكون في تلك السنَة، وقيل لأن الله تعالى قدَّر فيها إنزال القرآن، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى لأنها ليلة الحكم والفصل، أو لأن السماء الدنيا تكون مزدانة بملائكة الرحمة من كثرة التالين للقرآن والذاكرين للرحمن، والباكين من خشية الديَّان، والذاكرين لقاء الله سبحانه وتعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وعليه فهي ليلة تعلي قدر العمل المخلص لله ممن وصل نفسه بربه واستقام على طاعته سائلاً مولاه العفو والعافية دنيا وأخرى، ولعظيم مكانتها عند الله أنه أنزل فيها القرآن هداية وسعادة للبشرية، فهي سلام من عقاب وعذاب لمن قام بحقها طاعة لله تعالى، قال تعالى: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)﴾ (سورة القدر) .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم» (رواه ابن ماجه)، وقد أخفى الله سبحانه عِلْمَها على العباد؛ رحمةً بهم؛ لِيَكثر عملهم في طلبِها في الليالي الوترية من العشر الأخير من رمضان ليتبين الجاد من المتكاسل والحريص من المتهاون في طلبها فيزداد الجادون طاعة لله تعالى لينالوا شرف وبركة هذه الليلة؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر، من العشر الأواخر من رمضان» (رواه البخاري ومسلم)، تقول السيدة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : «يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر، بم أدعو، قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني» (رواه الإمام أحمد)، وعليه فإن هذه الليلة عظيمة يُفتح فيها الباب، ويُقرَّب فيها الأحباب، ويُسمَع فيها الخطاب، ويَرِد الجواب، ويُكتب للعاملين فيها عظيمُ الأجْر والثواب، والمحروم من حرم خيرها

ورمضان مضمار الله لخلقه يتسابق ويتنافس المتنافسون بطاعة الله والعاقل من يغتنم هذه الأوقات في طاعة لله تعالى يقول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾ (سورة الحجر).

فاللهم يا عفو يا كريم اعف عنا بفضلك وجود ولطفك يا أرحم الراحمين، وتقبل منا طاعاتنا واغفر زلاتنا واجعل خير أعمالنا خواتيمها  وخير أيامنا يوم لقاك يا رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشيخ الدكتور وفيق حجازي

مدرس فتوى

20/5/2019

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق